مفهوم الفضاء الروائي (الجزء الاول).

لم ينفصل الإنسان عن “الفضاء” يومًا فهو يخترق حياته ويلقي بظلاله عليه؛ وكما قال غابريل مارسيل (إنّ الإنسان غير منفصل عن فضائه، بل إنّه الفضاء نفسه).. لقد نشأت دراسات الشكل الفضائي في الرواية من الجدالات الفلسفيّة الإغريقية والرومانية حول ماهية الفضاء والزمن. وجلي أنّ الشكل الفضائي في الأدب يمت قطعًا بجذوره إلى تفسير الفلسفة والفنون والعلوم للفضاء الفيزيائي. فتاريخيا كانت البدايات الأولى للجدل حول الفضاء بين الملينين والفيثاغوريين، وقطع ذلك الجدل مراحل عدة إلى أن حدا بأفلاطون أن يجعل مفهوم الفضاء والمادة هما النقطة المركزية للفلسفة الأوربية عبر العصور الوسطى. أما أرسطو فاعتبر تمييز المكان والفضاء أمرا جوهريا حاسما من حيث النظرية؛ لكنّه يواجه التباسا حين يوضع على مرجل التطبيق، ويرى أنّ المكان هو الحدود الحافة بالمحتوى، والفضاء هو الحدود الداخلية لذلك المحتوى، وبمعنى آخر المكان يحتوي الفضاء.. كما يؤمن بأنّ المكان متغيّر بينما الفضاء ثابت؛ فقد تحتل الشخصية دائما فضاء غير أنّها لا تحتل نفس المكان دائما.. وصاغ مفهوم طول (الزمن وقصره) باعتبار أن التحديد الوحيد للزمن هو حجم الحركة. وفي القرن السابع عشر برزت جدليّة ما إذا كان الفضاء مطلقا أم نسبيا، وتمظهر ذلك في ما يسمى بالنظرية العقلانية التي اقترحها “ديكارت” الذي يرى أن ليس ثمة فرق بين الجسم والفضاء، وأن الفراغ منعدم، ولخّص التمييز الأرسطي بين المكان والفضاء بأنه تمييز للفكر وحده، وهناك أيضا النظرية المطلقة التي صاغها نيوتن ومفادها أنّ الزمن والفضاء النسبيين هما مجرد أبعاد قياسية للزمن والفضاء المطلقين. ويمثل الفضاء عند لوك المسافة بين نقطتين، أمّا المكان فهو علاقة المسافة بين نقطتين أو أكثر. والفضاء عند كانط “حدس خالص” أي “الشرط الذاتي للإحساس” وهي كما يقول إبراهيم جنداري الفكرة التي أصبحت أمرًا حاسمًا لدى الروائي في خلق الشخصيات الروائية.. ومع بدايات القرن العشرين بدأ العلماء في تفنيد ما سبق من نظريات ومن هؤلاء “هنري بيرغسون” والذي ركّز على الطبيعة النسبية للفضاء، والزمن، وعلى المدرك بدلا من الزمن العلمي؛ ليصل إلى طبيعة الديمومة والذاكرة. ومنهم أيضًا “مايرهوف” حيث وضع في كتابه “الزمن في الأدب” عددًا من أشكال الزمن في الأدب منها: الواقع الذاتي، التدفق المتواصل، الديمومة، الاندماج الدينامي، البنية الزمنية للذاكرة في علاقتها بهوية الذات، السرمدية، الزوال أو الموت”. وبرغم ذلك ما زالت الدراسات الغربية التي تناولت مكوّن الفضاء في الرواية في بداياتها، ولم تصل لدرجة طرح نموذج نظري متكامل يمكن الاستناد عليه في تحليل الأعمال السردية بطريقة شموليّة متفق عليها. لذا يظل ما قدم حول الفضاء الحكائي مجرد اجتهادات متفرقة تتضارب حول تصورات النقاد والدارسين حول المفهوم. ولج مصطلح “space” أو “الفضاء” إلى الدراسات العربية بفعل الترجمة، وهو كما تقول “زوزو نصيرة” مصطلح شائع عند النقاد الغربيين في حين يظهر مصطلح “المكان” عندهم على استحياء؛ بعكس النقاد العرب الذين لا يصطنعون مصطلح الفضاء في كتاباتهم النقدية بينما يحتل مصطلح المكان عندهم مقاما طباعيا أكبر؛ بل ربما يرفضه البعض ويسميه بـ “الحيّز” كما هو عند عبد المالك مرتاض، وهناك من يقرن بين “الفضاء” و”المكان” بعبارة “الفضاء المكاني” كما عند حسن بحراوي، أو “الحيّز المكاني” لـ عبد الحميد بورايو. ويناقض حسن نجمي المفاهيم السابقة ليصبح “الفضاء” عنده مجموعة من التيمات والتكرارات والقضايا والأفكار والمشاهد والشخصيّات التي قد تلهم مجموعة أعمال روائية، ويتضح ذلك خلال دراسته التطبيقية على أعمال الروائية الفلسطينية “سحر خليفة” ضمن كتابه “شعرية الفضاء السردي”.. وربما حسمت عبارة “إن الفضاء قد تداخل ضمنيا مع المكان وتشربه وتغلغل فيه” لمنصور الدليمي الجدل حول أيّهما أصوب وأشمل؛ مصطلح “الفضاء” أم “المكان”. وعلى هذا الأساس فإنّ ما قدمه “لحمداني” وهو أنّ “الفضاء في الرواية يضم أمكنتها جميعا لأن الفضاء أشمل وأوسع من معنى المكان” يعد المفهوم الأوحد الذي وقر في أذهان الدارسين العرب وتوافق مع معظمهم.. ويتفق “سعيد يقطين” مع “لحميداني” حين يقول: “إن الفضاء أهم من المكان، لأنه يشير إلى ما هو أبعد وأعمق من التحديد الجغرافي؛ وإن كان أساسيا، إنّه يسمح لنا بالبحث عن فضاءات تتعدى المحدود والمجسد لمعانقة التخييلي والذهني ومختلف الصور التي تتسع لها مقولة الفضاء”. وعلى نحو مواز تقول “عائشة الحكمي”: “كثرة الأمكنة ومجموعها منطقيا تستدعي أن نطلق عليها الفضاء”.. ويتكرر ذات المفهوم عند “محمد عزام” و “سمر الفيصل”.. 

Comments

Popular Posts