مفهوم الفضاء الروائي (الجزء الثاني).
هناك أربعة وظائف للفضاء في الرواية أولا أنه إيهام ثانوي فعّال داخل النص، ووسيط تتحقق عبره الخصائص الفضائية في الفنون الزمانية كالمسرح والشعر والرواية. أما الوظيفة الثانية فتتجلى من خلال الأنواع الهندسية كالنقطة والخط والمستوى والمسافة، وتكمن الوظيفة الثالثة للفضاء في علاقة الرواية بالفنون الفضائية كالرسم والنحت والعمارة. تحتم البداية في كثير من النصوص السردية تحديد المكان والزمان؛ ففي القصة القصيرة غالبًا ما يردان في السطور أو الفقرة الأولى، كما أنّ طبيعة القصة من حيث الطول والقصر ووحدة العقدة يفرضان أن تكون الإشارة إلى الزمان أو المكان سريعة على عكس الرواية التي تفرد بسبب طولها مساحة واسعة لمعنى الفضاء الروائي بمختلف تمظهراته، كما تنبه معظم الروايات التصويرية القارئ إلى مكان الحدث وزمنه. تحتوي كل رواية على طوبوغرافيا نوعيّة لأنّ الكاتب يختار موضعة الشخوص والحدث داخل فضاء واقعي أو مستمد من الواقع. وتتحكم الفضائية في مستوى الانفتاح والمحدودية فهناك أحداث رواية تبدأ في مكان واحد ثم تتماهى الأحداث وتتوزع على أماكن مختلفة؛ ومن هذا النوع الفضائية المتشظيّة، وهي وتمثل أقصى درجات الانفتاح على الأمكنة؛ وعلى النقيض هناك رواية يكون فضاؤها منغلقا، فيظل الشخوص والحدث رهين إطار ومكان معيّن لا يمكن تجاوزه. والكاتب الجيّد في هذا النوع من الروايات يحدث انفراجة في هذا الفضاء المغلق والمحدود باستخدام حرفي الإشارة “هنا” وهناك” ليموضع الروائي شخصيّته ويرافق إطار الأحداث، وتعتمد هذه الجغرافية الروائية كليا على مهارة تقنيات الكتابة السردية. في السينما يتم قذف الفضاء والحدث في وجه المشاهد دفعة واحدة، دون الحوجة إلى خطاب خاص مواز لتوالي الأحداث يقدم معلومات عن المكان الذي تتحرك فيه الأحداث والشخصيّات؛ بعكس الرواية التي تجبر الكاتب على قطع مجرى الحكي ليتوقف برهة ويعمد إلى وصف الأمكنة والأزمنة؛ فالفضاء داخل الرواية لفظي. ويمكننا التميز في دراسة الفضاء الروائي بين اتجاهين؛ الأول اختص بالروايات التي يغيب فيها الاهتمام بالديكور فلا يعرف الفضاء إلا من خلال أفعال الأبطال وأفكارهم وحركتهم، أمّا الاتجاه الثاني فاختص بوصف الفضاء، واعتنى برصد الألوان والأشكال والأصوات والأبعاد. وقد نجح الخطاب الواقعي في هذا النوع من الوصف؛ والذي يقتضي توقفا مؤقتا لمجرى السرد، وتوقف الناظر، ووجود شخصية قادرة على رؤية شيء ما من خلال وسط شفاف كـ ” نافذة، واجهة، باب مفتوح.. إلخ”. تتباين تشخيصات الفضاء بحسب طرائق الوصف عند السارد، فقد يكون الوصف عموديًا أو أفقيًا أو بانوراميًا، وقد يكون وصفا سكونيًا أو متنقلا، وأحيانًا يكون انتقائيًا، أي أنّ الروائي يقصر وصفه على جزيئات وعناصر محددة، وقد يأتي على شكل منظور تتضح مقدمته بينما تظل الخلفية مموهة. وللفضاء تأثير على إيقاع الرواية، فهو يندرج في اختصار واقتصاد المشهد الذي يجمع بين شخصيتين، وانعكاس ما يحيط بهما من فضاء على المونولوج الجاري بينهما. وفي المقابل نلمح في بعض الأعمال الأدبية وجود ديكور مجرد أو ملموس يغني الروائي عن الإسهاب والتفصيل في وصف الفضاء بما يكون عونًا له في تقنيته السردية؛ فالفضاء الجيد المتماسك يغني السارد عن مهمة التحليل والتعليق؛ كما يتكفل بمهمة الإيحاء بالانفعالات النفسية لشخوص الرواية، فمثلا الفضاء الضاغط كالزنزانة الانفرادية أو الحبس داخل تابوت خشبي أو الوأد يذكي في نفس السارد وشخوصه الروائية والقارئ الشعور بالقلق، والضيق، ومحاولة التمرد أو الثورة؛ فـ”الفضائية” تؤثر على الفعل التأويلي للنص، والذي يخلق بدوره حقلا مطابقا يجعل القارئ متفاعلا مع النص. ويبقى القول إن الفضاء داخل الرواية أعمق من أن يكون منمنمات وكلمات مهمتها إكساب النص ديكورا تخييليا تصويريا، بل يرتبط وثيقا باشتغال الأثر الروائي؛ فالفضاء داخل الرواية هو أكثر من مجموع أمكنة موصوفة ومرصوفة سرديًا بعناية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب وصحفي سوداني مقيم بمسقط
* كاتب وصحفي سوداني مقيم بمسقط
Comments
Post a Comment