مفهوم الفضاء العمومي (الجزء الاخير).

الوظائف السياسية للفضاء العمومي:

في ثلاثينيات القرن التاسع عشر تحولت صحافة الرأي إلى صحافة تجارية مقاولة في كل من الولايات المتحدة وفرنسا وإنجلترا واحتفظت الصحافة السياسية بطابعها الفرداني بالرغم من ظهور المجموعات البرلمانية والأحزاب السياسية في كل من فرنسا وإنجلترا.

لم يكن الفضاء العمومي السياسي مخترقا بالمنافسة بين المصالح ذات البعد الفردي، لهذا فالقرارات المتعلقة بالتوافق السياسي يمكن أن تتخذ باحترام كقاعدة للتعايش السياسي، في هاته الحالة فإن الفضاء العمومي يتكلف بتحقيق التوازن بين المصالح مقابل التخلي عن الاتفاق والتوافقات البرلمانية.

 لقد توفق البرلمان في أن يكون المكان الممأسس للنقاش، وأصبح النقاش السياسي مرهونا بما يدور في البرلمانات وفي وسائل الإعلام، لذلك لم يعد الرأي العام يتكون من خلال النقاش العقلاني بل أصبح مجالا للدعاية من أجل التضليل والسيطرة، إن عمومية النقاشات تقتضي ضمان استمراريتها داخل وخارج البرلمان وضمان وحدة الفضاء العمومي و وحدة الرأي العام المتكون.

تعود أسباب زوال الفضاء العمومي السياسي لأنه لم يعد ذلك الفضاء المؤسس على المشاركة المستمرة واستخدام العقل بارتباط والسلطات العامة [xxv] وتحولت الدولة من الدولة الدستورية الليبرالية إلى الدولة الاجتماعية، ففي إطار النموذج الليبرالي للفضاء العمومي  يكون من واجب  المواطنين مراقبة السلطة السياسية عبر تواصل يحركه عموم يستخدم العقل ويتكون بالتالي رأي عام بجهود الأحزاب [xxvi].

يرى هابرماس أن العمومية فقدت وظيفتها النقدية و عوضت بوظائف برهانية وحجج للنقاش حُرفت إلى رموز بشكل أصبح من غير الممكن الإجابة بحجج أخرى، وهو ما يبين فعل الدعاية  الموجهة للتحكم في الوعي بحيث " أضحى وجودنا محض دعاية أو أن وعينا بحاجة إلى دعاية للارتباط بها حتى نقول أنه موجود" [xxvii] .

وقد حاول دومينيك وولتون D.Wolton  توضيح دور الفضاء العمومي في الديمقراطيات الجماهيرية كنتيجة لحركة تحرير تشكلت لتقدير الحرية الفردية و مواجهة كل ما هو "عام" لما هو "خاص" أو داخلا في إطار المحظورات أو التقاليد، فالدفاع عن ما هو خاص في آخر المطاف حسب وولتون، هو الدفاع عن القواعد والمعتقدات المحافظة ليكون بذلك الفضاء العمومي واقعا ديمقراطيا يشير إلى تعبيرات متناقضة للمعلومات و الآراء والمصالح والإيديولوجيات  التي يعبر عنها مختلف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والدينيويين والمفكرين داخل المجتمع،  مكونا بذلك رباطا سياسيا بين ملايين المواطنين المجهولين من أجل إعطائهم الشعور بالمشاركة في السياسة [xxviii].

  الفضاء العمومي كفضاء رمزي يضم عددا كبيرا من المواضيع القابلة للنقاش ومن الفاعلين المتدخلين عموميا، وذلك راجع للتوسع في مجال مصادر المعلومات وانتشار استطلاعات الرأي والتسويق والاتصال لدرجة إمكانية الحديث عن "فضاء عمومي كوني" ، فهل هاته الإمكانية متاحة دون استحضار مقولة  "صدام الحضارات"  أو المنظور الفوكويامي للتاريخ ؟.

(*) باحث في علم السياسة و القانون الدستوري

[i]- Dominique Wolton, l'espace public, cahiers français, N° 218, Mai - Juin 1997, page 66.
[ii] - أعيد طبع الكتاب  للمرة السابعة عشر بتقديم مطول لهابرماس  في سنة 1992. في الترجمة الفرنسية المعتمدة يستخدم المترجم: sphère publique و espace public و قد قمنا بنقل المفهومين إلى العربية بنفس الدلالة (الفضاء العمومي)، كما أن هناك من يستخدم: مجال عام أو عمومي / ميدان عام أو عمومي/ حيز عام أو عمومي.
[iii] - يتميز الفضاء العامي بكون الجمهور يبقى فيه أميا و ملجما عن الكلام و غريبا عن شؤون مجتمعه، تحضر فيه الأمكنة من دون قيم و لا معايير و تسوده المؤسسات الرمزية ذات الثقل التاريخي – الديني. أنظر: مجلة فلسفة، الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة،  العدد 6/ 1998.
[iv]- Voir "avant propos", Jürgen Habermas, l'espace public, Traduit par: Marc.B.de Launay, Critique de la   politique, Payot, Paris, 1978 p 10.
[v] - انظر: علاء طاهر، نظرية هابرماس النقدية، الفكر العربي المعاصر، العدد 39، أيار/ حزيران ، مركز الإنماء القومي، بيروت، لبنان،  1986.
[vi]- Ibid, p 38
الاستخدام العمومي للعقل هو الذي يقوم به شخص معين بصفته رجل فكر أمام جمهور من القراء و الاستخدام الخصوصي هو الذي يقوم به شخص اعتبارا لمنصبه كموظف مثلا. 

[vii] - Ibid, p 114.
[viii] -Voir: J.Habermas, La modernité: un projet inachevé, Revue Critique, N° 413, octobre 1981.
[ix] - بالفرنسية:  structurée par la représentation.
[x]- Ibid, p 26.
[xi] - Ibid, p 32.
[xii] - Ibid, p 42.
[xiii] - Ibid, p 111.
[xiv] - Ibid, p 82.
[xv] - Ibid; p 47.
[xvi] - Ibid, p 105.
[xvii] - Ibid, p 107.
[xviii] - Ibid., p 108.
[xix] - Ibid, p 111.
[xx] - Ibid, p 110.
[xxi] - Ibid, p 142.
[xxii] - Ibid, p 156.
[xxiii] - Ibid, p 165.
[xxiv]-  Ibid, p 175.
[xxv] - Ibid, p 219.
[xxvi] - Ibid, p 249.
[xxvii] - علاء طاهر، مرجع سابق الذكر.
[xxviii] - D.Wolton, op. Cit.

Comments

Popular Posts